سلسلة أعلام الفكر للتلاميذ والطلاب
حياته :
ولد جان جاك روسو
بمدينة جنيف Genève
بسويسرا في 28 يونيو 1712 من ابوين مواطنين من اواسط الناس هما
اسحاق روسو((Isaac Rousseau :
Genève/1672- Neon/1747 و سوزان برنار (Suzane
Bernard : Genève/1673 – Genève/1712)، ابنة رجل
أنعم من زوجها حالا و يشتغل بمهنة التعليم. و لقد كان رابع جد لروسو لأبيه من باعة
الكتب في باريس ومن بين الذين اضطرتهم الفظائع والاضطهادات الدينية التي شهدها
القرن السادس عشر ليهجروا فرنسا. أما جده لأمه فكان راهبا بروتستانتيا ممن احتموا
في الجمهورية السويسرية من اضطهاد الكاثوليكية في ذلك العهد.
كانت سوزان جميلة ماهرة اديبة و
موسيقية، أما اسحاق فكان صانع ساعات و معلم رقص خفيف الروح، وقد وجد عناء في الظفر
بيدها اذ بدأ حبهما منذ طفولتهما الباكرة و لقد رزق منها ولدا بعد زواجهما سنة 1704 ثم اغترب إلى القسطنطينية
ليكون صانع ساعات في سرايا السلطان، و بقي فيها ست سنوات من 1705 إلى 1711 و كان جان جاك الثمرة
التعيسة لتلك العودة، إذ ولد بعد عشرة أشهر، ضعيفا سقيما. إذ قضت امه نحبها بعد
ثمانية أيام من ولادته و هي في حمى النفاس. و كان مولده أول ما حاق به من نحس و
تعاسة.
لقد خرج إلى الدنيا في حال هي أقرب
الى الموت فلم يكن ثمة أمل يذكر في انقاد حياته، و كان يحمل في كيانه بذور علة
أخذت تكبر على مر الزمن و لا تفارقه في بعض الاوقات، إلا لتقسو في تعذيبه بشكل
آخر. و قد تكلفت به إحدى عماته و كانت شابة لطيفة فاضلة فأولته رعاية خاصة في
أوائل أيامه فكانت تحنو عليه، تعتني به و تغني له و كانت " ذات صوت عذب رخيم "
فكان لأنغامها الرقيقة الحنونة أثرها في ارهاف حسه بل كان مبعث ولعه بالموسيقى
فيما بعد. و لما بلغ جان جاك السادسة أخد أبوه يعوده على القراءة فكانا يقرآن الروايات
و القصص الغرامية التي خلفتها أمه، في كل ليلة عقب العشاء، و كان القصد من ذلك في
البداية مجرد تدريبه على القراءة، بالاستعانة بالكتب المشوقة. و كانا يتناوبان
القراءة دون توقف، و ينفق ليال بأكملها في ذلك، و كان أبوه يقول أحيانا في
استحياء، و هو يسمع العصافير تشرع في الزقزقة مع مطلع النهار " هيا بنا إلى
الفراش ... كأني أنا الطفل و لست أنت".
وبفضل هذا الأسلوب استطاع في أمد قصير أن
يكتسب حذقا بالغا في القراءة والفهم، ليس هذا فحسب، بل أصبح لديه إدراك مميز نحو مشاعر
الحياة والاحساس بكل شيء وخلق خيال خارق عن الحياة الإنسانية لم يستطع ان يبرأ منها
طيلة حياته.
في شتاء 1719 تحولا إلى مكتبة جده لأمه الذي كان
قسا و عالما ورجلا ذا ذوق و ذكاء وكان من بين هذه الكتب: "تاريخ الامبراطورية
و الكنيسة لـلوسيور"، رسالة في تاريخ العالم لـبوسويه" و " حياة
مشاهير الرجال لـبلوتارك" و"تاريخ البندقية لـنافي" و " التطورات
و الأصول لأوفيد" و " العوالم و حوار الموتى لفونتينل" ، و بعض
مؤلفات "موليير"،.... فنقل كل هذه الكتب إلى غرفة أبيه وأخذ يقرأها عليه
وهو عاكف على عمله و أصبح
"بلوتارك" بوجه خاص هو أحب المؤلفين إليه. وهكذا بدأ قلب جان جاك وعقله
يتفتحان على عالم عظيم يجده في ثنايا تلك الكتب العظيمة في حين أن الأطفال في سنه
يلهون ويلعبون، وهكذا كبر جان جاك و قد
تهيأت له عوامل تذكي خياله و توقد أحاسيسه.
لكن حدث أن وقع شجار بين الأب وضابط
يدعى "جوتييه" و بعد سيلان الدم من أنف الأخير رأى الأب أن مآله السجن
لا محالة، ففضل الهرب و عهد بجان جاك إلى خاله و زوج عمته "برنارBernard". هكذا حرم الطفل المسكين
من أبيه و أمه، لكن ذلك الخال ما لبث أن ضاق بجاك فعهد به و بابن له كان في عمر
جاك إلى معلم يدعى "لامبرسييهLambercier " و هو قسيس بروتستانتي يقيم بالريف في قرية "بوسي Boussey".
قضى جاك في كنف ذلك القس عامين اعتبرهما
أسعد سنوات طفولته حيث تعلم اللغة اللاتينية و تربى في نفسه حب الطبيعة الحلوة
المنعزلة، فكان من صالحه أخيرا أن يعيش كطفل و أن يلعب و يلهو مع صبي صغير :
"إن بساطة هذه الحياة الريفية قد عادت علي بخير لا يقدر بثمن، إذ فتحت قلبي
للصداقة. حتى ذاك الحين كنت أحس بمشاعر سامية لكن خيالية. فلما اعتدت المعيشة
الهادئة مع ابن عمي برنار انعقدت بيننا و شائج العطف الرقيق..." الاعترافات Les Confessions . ذلك الحب الذي جعل منه أكبر
مصور للطبيعة عرفته فرنسا حتى نهاية القرن الثامن عشر فكتب فيها أجمل صفحاته و أخلدها
لاسيما في "أحلام يقظة الجوال المنفردLes Rêveries du
promeneur solitaire ".
و كان للقس أخت تخطت سن الثلاثين كانت
تعنى بتهذيبه و تعمد على ضربه أحيانا حيث كان يجد في عقابها لذة فتعلق بها تعلقا
لا يدرك تفسيرا له فكتب "و هل يصدق أحد أن هذا العقاب الصبياني الذي كانت
تنزله بي، قد أثر على ميولي، و رغباتي، و نزواتي، و على نفسي ذاتها، طوال بقية
حياتي، بشكل يناقض تماما النتيجة الطبيعية التي كان ينبغي أن يؤدي إليها" الاعترافات
Les Confessions. فكان يبحث
عن الأم و حنانها و لذة عقابها التي حرم منها في شخصها. لكن لم يطل مقامه هناك بعد
أن اتهم بتحطيم أسنان مشط فكانت جميع القرائن قوية فأصر على الانكار فاعتبر ذلك
كذبا من ناحيته و اضطر إلى العودة إلى خاله حيث ظل بدون عمل، فأرسله إلى أحد
الكتاب العموميين لكنه لم يفلح، ثم وجهه
إلى حرفة النقش على المعادن غير أنه لم يتحمل المهانة و المعاملة القاسية لمعلمه التي
بثت في نفسه بعض الرذائل كالغش والكذب
والسرقة. في ذلك الوقت بدأ يتجه من جديد نحو الكتب و ينفق فيها ما يتحصل عليه من
نقود زهيدة. ويتحين أول بادرة للخلاص. ذات يوم عاد متأخرا و قد وجد أبواب المدينة مغلقة فأقسم
ألا يعود، و قضى الليلة خارج الأسوار، و في الصباح قرر الفرار من دون رجعة.... في
تلك اللحظة انتهت مرحلة عدم الاستقرار، التي طابعها التشرد والحرمان ... حرم فيها من
الأبوين ومن حياة الأسرة وذاق الفقر والنحس وهو طفل لا يزال في عامه السادس
عشر.
ساقته قدماه إلى الريف الى قس يدعى
دوبونتفيرDe Pontverre فتلقاه بالرحب و الكرم و دعه
الى اعتناق الكاثوليكية، فأرشده الى سيدة طيبة و محسنة و كانت السيدة المقصودة هي
"مدام دي وارنزMadame de Warens" بأنسي Annecy ؛ و كان ذلك يوم 12 ابريل 1728 بداية كل شيء.. بداية الشباب...
بداية الآمال.. بداية تعلم الحياة ومعرفتها...
ذهب إليها كما أوصاه دوبونتفير متوقعا
أن يلقى عجوزا متعصبة لكنه ذهل عند رؤيتها سيدة في الثامنة و العشرين ذات حسن و
عينين زرقاوين جميلتين و لون باهر و عنق ساحر، ذات ابتسامة ملائكية. تعلق بها منذ
النظرة الأولى و ارتاح إليها و رغب من صميم نفسه لو أنه أقام لديها ، لكنها لم تستطع
ايواءه سوى أيام، فنصحته بالتوجه الى تورين
Turin بإيطاليا إلى دير يجد فيه ملاذا. فاتجه الى هناك و معه
مبلغ يسير من المال. ما إن وصل الى الدير حتى فقد الثقة بالوعاظ و رجال الدين لما
يفعلون من غرائب تنفر منها النفوس فكرههم و اعتبر الدير سجنا لابد من الإفلات منه.
بعد شهر خرج يبحث عن مأوى و مورد يعيش منه فاشتغل في المنازل، لكنه أدرك انه لم
يخلق لذلك فعاد إلى أنسي Annecy بسويسرا حيث استقبلته "مدام دي وارنزMadame de Warens" في ود مرحبة به مانحة
اياه حنانا وحبا ملأ عليه فراغ شبابه، فاخذ يناديها "امي" وعاش معها
يتعلم الموسيقى و ينهل المعرفة من الكتب من جديد، وأرسلته إلى معهد ديني في البلدة
ليخرج منه بعد قليل دون فائدة ثم إلى رئيس موسيقى كاتدرائية البلدة يدعى مسيو لومترM.
Lemaitre لم يستفد منه شيء. فعاد من جديد إلى أنسي Annecy فعمل مترجما لقسيس إيطالي ثم سكرتيرا لأحد الشبان المشتغلين بالوظائف
العسكرية و في هذه اللحظة كان يلتقي في الطريق بفلاحين بلغ بهم البؤس أقصاه،
أثقلتهم الضرائب و ظلمهم نظام اجتماعي فاسد فتأثرت نفسه.
عاد جان جاك إلى "أمه" ليجد
عندها "كلود آنيت Claude Anet" خادما
و خليلا . و مع ذلك أقام عندها سنوات. مات "كلود آنيت " و أصبح هو
الصديق و المدبر لشؤونها. كان في تلك اللحظة سعيدا قرير العين .. و كانت حياته
بالريف داعية لاستسلامه للطبيعة و الأحلام
و حب النباتات إلى جانب سعيه في ميدان الموسيقى و العناية بدراستها.
و استقر رأيهما بعد ذلك على الاعتزال
في ريف فأقاما في "شارميت Les Charmettes" في ربوع الطبيعة التي أحبها، ينهل من محاسنها فتغذي خياله و
إحساسه، يقرأ كتب الفلك و النجوم والطب و الفلسفة.
انتقل إلى "ليون Lyon" بفرنسا حيث عمل مربيا ثم استقال ليعود
إلى السيدة ليجدها وقد تدهورت حالتها المالية وتراكمت عليها الديون. أقام مشروعا
لنشر نوتات موسيقية تستند
إلى الأعداد يعين به "أمه". ثم سافر إلى باريس ليعرضه على الأكاديمية التي لم تجد
طريقة جان جاك عملية أو
مفيدة.
روسو و الأسرة:
في علاقة روسو بمحيطه الأسري سنركز على
مرحلة ما بعد المراهقة لأن والديه غادراه وهو صغير كما أسلفنا في المحاور السابقة.
وعلاقاته العاطفية في سن المراهقة كانت عابرة رغم أن لها أثرا عميقا في نفسه. كما
هو شان تعلقه بالآنسة Goton وهي مربيته
التي كان يتلذذ بعقابها له كلما أساء السلوك، وبقيت تلك العاطفة تلاحقه. ثم Madame de Warens التي قضى في بيتها أوقاتا وصفها هو شخصيا بأنها
لا تنسى لما بذلته من جهد في تعليمه و
الاهتمام به ثم قصة العشق بينهما التي انتهت بان تركته من أجل شخص اخر.
صدر كتاب عن حياة روسو عنوانه (الأحلام
والدموع) بقلم الكاتب النمسوي هانز يوليوس فيلي تناول فيه حياة المفكر من ناحية
جديدة هي ناحية العاطفة والمشاعر، إذ يرى أن حياته أخصب وأدق ناحية في شخصيته.
فإذا كان روسو قد ارتفع بالفكرة الإنسانية إلى أسمى مواطنها، وإذا كان هو مؤسس
المذهب الرومانسي، فإن في جوانب حياته الخاصة ما يلقي حجابا على عبقريته وسمو
خصاله. فهو_وهو الذهن الحر_ يأبى مدى ثلاثة وعشرين عاماً أن يسبغ على شريكة حياته
وأخلص النساء إليه - تيريز ليفاسير - شرف الزوجية. ويقول إنه تزوجها رغبة ودون إرادة. وكيف لمؤسس مذهب
جديد في التربية ان يرغم رفيقته إيداع أولادها الخمسة ملجأ اللقطاء. و يطأ بقدميه
أقدس وأعمق عواطف تيريز، وهو في جميع أعماله وتصرفاته ينم عن آثرة عميقة لا تتفق
مع النظريات الإنسانية والأخلاقية السامية التي يبشر بها في كتبه. وهذا وجه من
أوجه التناقض في حياته.
لقد كانت تريز رفيقة وفية ولكنها لا
تستطيع أن تكون رفيقاً لذهنه، كتب في إميل يقول "ينبغي ألا يقترن الرجل الذي
يفكر بزوجة لا تستطيع مشاطرته أفكاره". ولم تكن بتريز المسكينة حاجة تذكر
للأفكار، ولا كبير حاجة للكلمات المكتوبة. لقد بذلت له جسدها وروحها، واحتملت
غضباته. وسمحت له بأن يقترب من حافة الخيانة مع مدام دودتو، وكانت هي على قدر ما
نعلم وفية في تواضع. ولكن أنى لهذه المرأة الساذجة أن تستجيب لذلك الاتساع والتنوع
الجامح في عقل قدر له أن يزلزل نصف القارة؟ كما انه أقلع في مرحلة من عمره عن كل
اتصال مع تريز بسبب المرض. كأنه توقف عن حبها إن أحبها أصلا.
روسو في باريس:
كان
في التاسعة والعشرين عندما قدم إلى باريس، التقى في فندق بامرأة بسيطة تدعى
"تريز لوفاسير Thérésse Levasseur" تمتهن تنظيف الملابس، قال عنها: "لست أخجل حين أعترف
أنها لم تحسن أبدا القراءة وإن كانت تكتب كتابة مقبولة.. ولما أقمت في شارع كان
مقابل نوافذي ساعة كبيرة جهدت أكثر من شهر لأعلمها معرفة الوقت وهي الآن لا تكاد
تعرفه .. وهي لا تعرف رقما واحدا برغم المجهودات التي أنفقت لإفهامها
الأرقام..." تلك هي المرأة التي شاء القدر أن يضعها في طريق جان جاك لتعاشره
ما بقي من حياته ولقد رزقت منه بخمسة أطفال اودعهم الملاجئ، غير أن حياته انتظمت
نوعا ما قرب تريز فاستسلم للعمل المجدي وأنتج أعماله الأدبية جميعها، فأتيح له أن يقف عن كثب على الحياة
الباريسية، كما أتيح له أن يتصل اتصالا مباشرا بزعماء مركز التنوير وأن يعقد
صداقات و علاقات شخصية مع بعضهم مثل "ديدرو Diderot" و "فولتير Voltaire" و إن خالفهم في كثير من الأفكار والمواقف.
في عام 1749 سجن صديقه ديدرو الذي توطدت صلته به عقاباً له على فقرات مهينة
في كتابه "رسائل عن المكفوفين"، وكتب روسو إلى مدام دبومبادور يلتمس
الإفراج عنه أو الإذن له بأن يشاركه سجنه. وخلال ذلك الصيف قام غير مرة برحلة
دائرية طولها عشرة أميال بين باريس وفانسين ليزوره. وفي واحدة منها أخذ نسخة من
مجلة ماركير دفرانس "Mercure de france"
ليقرأ أثناء سيره. وهكذا وقع على إعلان عن جائزة تقدمها أكاديمية ديجون لأفضل مقال
يجيب عن سؤال "هل أعان إحياء العلوم والآداب والفنون على إفساد الأخلاق أم
على تطهيرها؟" وأغره الإعلان بدخول المسابقة، فهو الآن في السابعة والثلاثين،
وقد آن الأوان ليحقق لنفسه الشهرة فأدلى بدلوه و نال الجائزة في يوليوز من عام
1750.
يقول روسو بعدئذ في اعترافاته
"ولكن ذلك كان سبب ضياعي طوال حياتي وكان سبب تعاستي" ، كان ذلك أول فوز
له وأول خطوة نحو المجد بعد أن بلغ الثامنة والثلاثين. كان رد روسو يتضمن الطعن في
المجتمع المدني والمناداة بالرجوع إلى الحالة الطبيعية واعتبار العلوم والفنون
مصائبا وأهوالا على الإنسانية بل إنها تقتل فراغ الرجال وتعودهم البطالة وهي
المسؤولة وحدها عن الانحطاط والفساد، وقد انتقد كثير من النقاد مقالة روسو ومنهم
فولتير سنة 1751.
ألف روسو بعد ذلك أوبرا "عراف
القرية Le devin du village " مثلت أمام الملك ورضي
عنها فطلب مقابلة روسو لكنه أبى مؤثرا حريته و مبادئه، ثم مثلت رواية Narcisse ففشلت كل الفشل. وفي عام طرحت
أكاديمية ديجان سؤالا حول موضوع عدم المساواة بين الناس، ورغم أن كتابته هذه المرة
أقوى وأبلغ إلا أنه لم ينل الجائزة حيث دعا الفقراء إلى التمرد على النظام
الإقطاعي وقال في جوابه " إن الحرية لا تكون مع عدم المساواة فمن عدم
المساواة تنشأ الثورة ]...[ وإذا كان التخلف الحضاري يدرأ
هذا الظلم فلنعد إليه راضين"
سافر بعدئذ إلى جنيف صحبة تيريز ولبث
بها أربعة أشهر ثم غادرها صوب باريس في خريف عام 1754 وما إن عرضت عليه Madame d’Epinay
المقام في L’Ermitage على مقربة من قصرها ومن
غابة Mont Morency حتى قبل متلهفا فترك باريس مرة
أخرى في أبريل عام 1756 ولم يقدر له دخولها بعدئذ إلا في أواخر أيامه.
إذا كانت الأعوام التي قضاها روسو في
"الشارميت Les Charmettes" مرحلة
دراسة و تحصيل فإن السنين التي قضاها في Mont Morency
قد كانت مرحلة تعبير وإنتاج غزير. عاش في صومعته راضيا قرير العين بنسخ الموسيقى كمورد رزقه، وألهمته
الطبيعة في هذه الغابة ليكتب جزءا من روايته "هيلويز الجديدة" وآخر من
"العقد الاجتماعي" .
بلغ الخامسة والأربعين بعد أن طردته
مضيفته لما رفض السفر معها إلى سويسرا فشهـرت به وناصرها في ذلك "جريم"
و "ديدرو" مما جعل روسو يعتقد اعتقادا راسخا في اضطهاد أصحابه جميعهم له
ورغبتهم في إلحاق الشر به.
كانت علاقة روسو بفولتير حتى ذلك العهد
طيبة ولكنها ساءت بسبب ما كتبه الفيلسوف دالمبير D'Alembert بدعم من فولتيرVoltaire في "الانسيكلوبيديا" عن وجوب بناء مسرح بجنيف إذ تصور
روسو أن فولتير يريد إتعاس وطنه وافساده فكتب رسالة الى دالمبير معدّداً مساوئ
المسرح معللا ذلك بعدم حاجة جنيف إليه منددا بمسرحيات موليير ولكن فولتير غضب من
تلك الرسالة فكانت القطيعة التي ظلت قائمة حتى الموت.
وفي ربيع 1759 سكن روسو في كوخ صغير ملحق
بقصر الدوقة دي لوكسومبورج " duchesse de Luxemburg " في طرف الغابة بناءً على إلحاحها وساعدته الإقامة هناك على
الاتصال المباشر بالمارشال زوجها وبجميع أصحابهم وأصدقائهم من الكبار. ألف في تلك
الفترة كتاب "إميل Emile" الذي طُبع في هولندا في يونيو 1762
وفي نفس السنة أصدر كتاب العقد الاجتماعي الذي
كان قد بدأ كتابته منذ خمسة عشر عاما، فأثار ضجة كبيرة، لم يكترث لها روسو في بادئ الأمر ظانا أنه في حماية
المارشال دي لوكسومبورج، لكن "الأمير دو كونتي Prince
De Conti " حذره بعذ ذلك بأن من
الممكن أن يصدر قرار بالقبض عليه ومحاكمته. وفعلا وأصدرت حكومة جنيف أمرا مماثلا
في الثامن عشر من يونيو 1762، وصادرت السوربون الكتاب كما طعن فيه رئيس كهنة باريس
و البابا كل ذلك بحجة " نشر أراء تخالف العقيدة المحترمة في المملكة".
العودة إلى فرنسا :
هرب روسو من محاكمته نحو سويسرا بعد
غيبة عشرين عاما في فرنسا لكنه فوجئ بإصدار قرار بحرق "إميل" لأنه ضد
الدين وكذلك إتلاف " العقد الاجتماعي" لأنه ضد الحكم. فسافر الى "جبال
الجورا Jura" حيث كتب "رسائل من
الجبل". وافق فريدريك الثاني على إيواء روسو كلاجئ مقابل عدم العودة الى
الكتابة لكنه وعده فقط باحترام القوانين والملك و النبلاء، وعلى إثر مشادات مع "الراهب
Montmollin" هاجمه الفلاحون فهرب الى
"جزيرة Saint Pierre " بسويسرا عام 1765 ألهمته "أحلام يقظة الجوال المنفرد"
غير ان قرار طرده عجل برحله من الجزيرة في
اكتوبر من نفس العام.
توجه روسو بعد ذلك الى ستراسبورج و وصل
الى باريس في 16 من دجنبر 1765 ليمكث فيها أياما قليلة ثم غادرها في أوائل يناير
1766 الى انجلترا حيث استضافه الفيلسوف "دافيد هيوم David
Hume "
ولحقت به تيريز. أعجبه المقام في بادئ الأمر فلبث فيها ثلاثة عشر شهرا ينسخ
الموسيقى ويكتب ذكرياته "الاعترافات Les Confessions " وهي سجل حياته يصور فيها مآسيها الكثيرة وأفراحها القليلة،
لكن ما لبث روسو أن مل طبيعة انجلترا بعد خلاف مع "هيوم" ليعود الى باريس عام 1770 ليقطن في شارع Platrière الذي حمل اسمه بعد ذلك .
بلغ روسو ذروة التعاسة فغذا يظن العالم
غاصا بأعدائه، أحس بالظلم الفادح عليه فرغب في الدفاع عن نفسه وما إن انتهى من
كتابه " الاعترافات" حتى أخذ يتنقل من بيت الى بيت ومن صالون الى صالون يقرأها
على مجموعات قليلة من الناس لعله يكذب ما يشاع عنه وليستدرَّ عطف من يستمعون إليه
لكنه لم يلق آذانا صاغية فخاب أمله واعتزل الناس في يأس، ولكنه مع ذلك لم يكف عن
التفكير في الحال التي انتهى اليها فكتب "الحوار Dialogues" أو "روسو يحاكم جان جاك Rousseau,
Juge de Jean-Jacques" الذي اودعه في النوتردام
عام 1776 ثم كتب مقالة يوزعها على من يصادفهم في طريقه بعنوان " الى كل فرنسي
لا يزال يحب العدالة والحق" ، وفي استسلام تام أخذ يسجل "أحلام يقظة الجوال المنفرد" تلك الخواطر
كانت آخر ما كتب بعد أن ترك مسكنه بشارع Platière عام 1777 فاستضافه Mr de Girardin في "ارمنفيل Ermenville" بمنزل بالريف لكنه لم يستمتع بمقامه طويلا إذ ما لبث أن مات
في الثاني من يوليوز 1778 ودفن في ارمنفيل في "جزيرة Ile
des Peupliers" ثم نقل رفاته الى البانثيون Panthéon يوم 11 من اكتوبر سنة 1794
في احتفال كبير فدفن في مدافن العظماء.
الفلسفة السياسية :
يرى روسو أن الانسان طبيعي لا هو
بالخير ولا هو بالشرير، وإن المساواة بين الناس قد زالت بظهور الزراعة والصناعة
والملكية. فالقوانين قد شرعت لتثبيت قوة الظالم على المظلوم، والناس يستطيعون
تحقيق شيء من الحرية المدنية بدخولهم في تعاقد اجتماعي يجعل السيادة للمجتمع بأسره
بحيث لا يجوز النزول عنها لأحد.
يفترض روسو أن الإنسان كان متوحدا و في
الغالب لا يعرف أهله، ولعله لم يكن يعرف أولاده، ولا لغة له ولا صناعة ولا فضيلة
ولا رذيلة، حيث لم يكن له مع أفراد نوعه أي علاقة يمكن أن تكون علاقة أخلاقية. كان
يحصل بسهولة على وسائل إرضاء حاجاته الطبيعية ولم يصب الا بالقليل من الأمراض وقلما
كان يحتاج إلى الأدوية لأن الصحة إنما تعتل بالإسراف في المعيشة وبالميول المصطنعة
وما ينتج عنها من إجهاد جسمي وعقلي.
يرى روسو أيضا أن الحرية هي التي تميز
الإنسان ويقول إن الحيوان ينقاد لدافع الطبيعة بينما الإنسان يرى نفسه حراً في
الانقياد لها أو مقاومتها. ويعتقد روسو أن هوبز قد أخطأ في قوله أن حالة
الطبيعة تتميز بالطمع والكبرياء، فإن هاتين العاطفتين لا تنشآن إلاّ في حالة الاجتماع،
فالإنسان المتوحد كان كاملاً سعيداً لأن حاجاته قليلة. لكن يطرح التساؤل عن كيفية
خروج الإنسان من هذه الحالة؟ لقد تركها اتفاقاً بأن عرضت له أولاً أسباب طبيعة
كالجدب والبرد والقيظ اضطرته إلى التعاون مع غيره من أبناء نوعه... تعاوناً موقتاً
كان الغرض منه صيد الحيوان... ثم اضطرتهم الفيضانات والزلازل إلى الاجتماع بصفة
مستديمة فاخترعت اللغة فتغير السلوك وبرز الحسد. إن هذا الاجتماع بنوعيه، المؤقت
والمستديم، يمثل في رأي روسو، حالة التوحش الخالية من القوانين وليس فيها ردع سوى الخوف
من الانتقام ولكن تطور حياة الإنسان واتساع ضروراتها أدى إلى نشوء حالة مدنية
منظمة بالقوانين تثبت الملكية ويتوطد التفاوت بين الناس. وهكذا يتحول الإنسان الطيب
بالطبع إلى شرير بالاجتماع ومن تم أضحى الاجتماع ضروريا ومن العبث فضه والعودة إلى
حالة الطبيعة، وكل ما تستطيع صنعه هو أن تصلح مفاسده بأن تقيم حكومة صالحة وتهيئ
لها بتربية المواطنين الصالحين. فمن الوجهة الأولى تعود المسألة إلى إيجاد ضرب من
الإتحاد تحمي قوة المجتمع شخص كل عضو وحقوقه ويسمح للكل وهو متحد بالكل بأن لا
يخضع إلا لنفسه وبأن تبقى له الحرية التي كان يتمتع بها من قبل. لم تكن ملكية
الأرض مضمونة بما فيه الكفاية. وكان لابد من تدبر وسائل جديدة لحمايتها. وقد لجأ
الأغنياء إلى الحيلة للإيقاع بالفقراء فابتكروا كما يقول روسو، أذكى خطة عندما
قالوا للفقراء نتحد لكي نحمي الضعفاء من الظلم والجور، ونضع قوانين العدل والسلم
وبدلاً من أن نستنفذ قوانا في الاقتتال نوحد أنفسنا في سلطة عليا وفق الشرائع
الحكيمة... وهكذا قاد تأسيس الملكية الأرضية البشر إلى الميثاق الاجتماعي.
هذه المسألة التي يعالجها روسو في
كتابه (العقد الاجتماعي) يذهب إلى أن هذا الفرض (الحريات والحقوق) ممكن التحقيق
عندما تجمع الكثرة المفككة على أن تؤلف شعبا واحداً، وأن يحل القانون محل الإرادة
الفردية ويتنازل الفرد عن نفسه وعن حقوقه للمجتمع بأكمله وهذا هو البند الوحيد
للعقد الاجتماعي إذ بمقتضاه يصبح الكل متساوين في ظل القانون، والقانون إرادة الكل
تقر الكلي أي المنفعة العامة وأن الشعب لا يريد إلا المنفعة العامة. فالإرادة
الكلية مستقيمة دائماً ومن يأبى الخضوع لها يرغمه المجتمع بأكمله.
كانت القوانين في البداية، على حد قول
روسو، تفتقر إلى بعض الضوابط والمعايير الملزمة للأفراد وكان المجتمع بأسره يضمن
احترامها والتقيد بها. لكن سرعان ما أوحى ضعف شكل الحكم فكرة "توكيل أفراد
معينين على الوديعة الخطيرة، السلطة العامة"، هكذا ظهر الولاة المنتخبون، بما
أن الشعب وحَّد إرادته جمعاء في مشيئة واحدة. فيما يتصل بالعلاقات الاجتماعية، فإن
كل ما وضع موضوعاً لهذه المشيئة صار قانوناً أساسياً ملزماً لجميع أعضاء الدولة
دونما استثناء. وهكذا نجد أن العقد الاجتماعي لا يتمخض، من منظور روسو عن تكوين
المجتمع كتنظيم سياسي فحسب، وإنما يحدد أيضاً العلاقات المتبادلة بين الشعب وبين
الذين انتخبهم كي يحكموه.
لقد كان العقد أداة إرادية يتنازل به
الأفراد عن حريتهم الطبيعية إلى كل فرد آخر، وأذابوا إرادتهم الفردية في إرادة
عامة مشتركة واتفقوا على قبول أحكام هذه (الإرادة العامة) كأحكام نهائية قاطعة،
وكانت هذه الإرادة العامة هي السلطة صاحبة السيادة، وإذا ما فهمت هذه السلطة فهما
صادقا فإنها سلطة (مطلقة) و(مقدسة) ولا يمكن الخروج عليها. أما الحكومة فهي أمر
ثانوي عرضي، فالملك والموظفون أو الممثلون المنتخبون ممثلون عن الشعب الذي يملك
السلطة والسيادة.
إن العقد الاجتماعي عند روسو ليس عقداً
بين أفراد (كما عند هوبز) ولا عقداً بين الأفراد والسلطات (كما عند لوك) فبموجب
هذا العقد، كما يرى روسو، فإن كل واحد يتحد مع الكل ، فالعقد هو بين المجموعة بحيث
يضع كل واحد شخصه وقدرته في الشراكة تحت سلطات الإرادة العامة, وسيكون كل شريك
متحداً مع الكل ولا يتحد مع أي شخص بشكل خاص.
إن العقد الاجتماعي هو الشرط الضروري
واللازم لكل سلطة شرعية ولكل إبرام. هذا العقد يمثل في الوقت نفسه من منظور روسو
مرحلة محددة من التطور التاريخي يشير إلى الانتقال من الحالة الطبيعية إلى
المجتمع المدني، وأن ما يخسره الإنسان من جراء العقد هو حريته الطبيعية والحق اللامحدود
في كل ما يقربه وكل ما يستطيع أن يبلغه ويطوله و ما يربحه بالمقابل هو الحرية
المدنية وهو تملكه لكل ما ملكته يده.
يتلخص جوهر العقد الاجتماعي على النحو
الآتي، يضع كل واحد منا شخصه وكامل حقوقه تحت الإمرة العليا للمشيئة العامة وأن
غاية العقد الاجتماعي الحفاظ، ولا ريب، على حياة المتعاقدين. ولكن من يرغب بالحفاظ
على حياته بمعونة الآخرين ملزم بالتضحية بها في سبيلهم عندما يقتضي الأمر ذلك. إن
الفرد إذ يمنح نفسه للمجتمع يستودعه أمواله أيضا. فروسو يؤكد أن الميثاق الاجتماعي
يجعل من الدولة مالكة أموال رعاياها كافة. غير أن الدولة التي تتقبل أموال رعاياها
وممتلكاتهم لا تجردهم منها وإنما تضمن لهم تملكهم المشروع، فالدولة وحدها قادرة
على تحويل الاغتصاب إلى حق للتمتع بملكيته. ثم يأتي روسو على أهم جانب من جوانب
نظريته وهو الجانب الذي يميزه عن النظريات الأخرى، فليس من المعقول في نظر روسو أن
تتخيل عقداً يتعهد أحد الطرفين بموجبه أن يأمر، والثاني أن ينصاع، إن العقد الوحيد
هو الذي يتولد عنه الحسم السياسي وكل عقد يحد من سلطة الشعب السائدة المطلقة
يقوِّض أساس الميثاق الاجتماعي. وان ممثلوا
السلطة التنفيذية ليسوا قادة الشعب أو رؤساء، إنما هم موظفون عنده وهو من
يعيينهم أو يسرِّحهم، ولا تقوم وظيفتهم على أساس بنود عقد محدد وإنما على أساس
انصياعهم للواجب الذي تفرضه الدولة.
إن أشكال الحكم في نظر روسو ليست أكثر
من أشكال تنظيمية للسلطة التنفيذية ومهما اختلفت أشكال الحكم، تبقى السلطة
السيادية على الدوام من حق الشعب، ولكن قد يعهد هذا الأخير بالسلطة التنفيذية إما
إلى الجزء الأكبر من الشعب، وإما إلى عدد محدود صغير من الأشخاص، وإما إلى شخص
واحد، ويطلق على الشكل الأول من أشكال الحكم اسم الديمقراطية وعلى الثاني
الأرستقراطية، وعلى الثالث اسم الملكية.
اختار روسو الديمقراطية في حقبة لم
تتواجد فيها الديمقراطية لا في الواقع ولا في الأفكار، وبما أن الشروط التاريخية
للديمقراطية لم تكن متوفرة، وجد روسو نفسه مضطراً إما لقبول أيديولوجية اللبرالية
البرجوازية التي كانت يومئذ الإيديولوجية السائدة (حرية، مساواة، ملكية) و إما
بناء مدينة طوباوية لكنها في نفس الوقت عقلانية.
حاول روسو أن يثبت إنه يستحيل في
المجتمع الحر أن يحكم أي إنسان من قبل أي إنسان آخر، وكيف إن كل فرد هو في آن معاً
رعيَّة ومواطنين، وإن السلطة الشرعية لابد أن تنبثق عن موافقة المحكومين، وإن
السيادة تكمن في الإرادة العامة في اجتماع الأمة، وإن الذين يشغلون منصباً عاماً
لا يؤدون مهامهم بمقتضى حقهم الخاص، أو حق موروث، وإنما بمقتضى سلطة أوكلتها
إليهم، سلطة تمنح وتسحب.
روسو و المناخ العام:
لم يكن روسو يكترث بفقره وعرف هموم الفقراء و الطبقة المتوسطة، فكان يرد هدايا جيرانه اللطفاء حين يرسلونها إليه،
فقد أحس أنه من الذل أن يأخذ المرء أكثر مما يعطي، كما تلقى جان جاك عروضاً
كثيرة من الأرستقراطيين الذين ساعدوا مفكري
التنوير ليس لموافقتهم على آرائهم بقدر تعاطفهم الكريم مع العبقرية المحتاجة. لقد كان في نبلاء النظام القديم الكثير من
عناصر النبل، وقد خصت الأرستقراطية روسو بصداقتها رغم تنديده بها. كتب جان-جاك إلى
مالزيرب في 28 يناير 1762 خطابا رد فيه على من اتهموه بالتنديد بالنبلاء، وبالتودد
إليهم: سيدي، إنني أكره كرهاً شديداً
تلك الطبقات الاجتماعية التي تتسلط على غيرها...ولا يضايقني أن أعترف لك بهذا…. ".
كان «الأنواريون»، أمثال ديدرو وفولتير
، يؤكدون على أنه يكفي البشرية أن تترك نفسها تنقاد للعقل، كي تستمتع بالرخاء
والتقدم المادي والسياسي والأخلاقي، إلا أن روسو لم يوافقهم الرأي أبدا. وكان من
أوائل من أطلق الصرخات ضد الحداثة وعقلانيتها قبل نقد القرن العشرين لها.
في البداية كان روسو معجبا
بفولتير، ومفتونا بأفكاره. وقبل أن يلتقي به، كان يلتهم كل ما يصدره من كتب. و في ”الاعترافات”
يقرّ بأن “الرسائل الفلسفية” كان كتابه المفضل حتى أنه لم يكن يمل من قراءته أبدا.
وعندما شاهد مسرحيّة” الزير” التي عرضت في مدينة غرونوبل، أحسّ روسو الذي كان آنذاك
في الخامسة والعشرين من عمره بالاختناق من شدة التأثر. وفي عام 1748ـ كتب رسالة
إلى فولتير راجيا لقاءه، إلاّ أن فولتير الذي كان يتمتع بشهرة واسعة ليس في فرنسا
وحدها، وإنما أيضا في بريطانيا، وفي هولندا، وفي ألمانيا، لم يستجب لدعوته. لذلك
سارع روسو بالالتحاق بحلقة” الموسوعيين”. عندئذ بدأ نجمه يلمع، وبات يتمتع بمكانة
رفيعة في الأوساط الفكرية خصوصا بعد أن أصدر كتابه” العقد الاجتماعي”. لكن فولتير
لم يبد أيّ إعجاب بهذا الكتاب معتبرا إيّاه “نكوصا إلى الوراء”، ودعوة إلى رفض
التقدم الذي كان يدافع عنه بحزم وقوة. وفي رسالة بعث بها إلى روسو بتاريخ 30 غشت
1755، كتب فولتير يقول بأن من يقرأ “العقد الاجتماعي” تأخذه “الرغبة في الزحف على
أربع”. وراغبا في المزيد من إغاظته، أضاف فولتير قائلا:» أحبّ الترف والبذخ، وحتى
الميوعة والرخاوة. وأحب كلّ الملذّات والفنون بجميع أنواعها “. وقد أشعلت تلك
الرسالة اللاذعة نيران المعركة الحامية بين الفيلسوفين الكبيرين. وبعد مرور خمسة
أعوام على رسالة فولتير، كتب روسو رسالة إليه إفتتحها بالجملة التالية:" أنا
لا أحبك يا سيدي!" وختمها بـ ” وداعا سيدي!". وعندما أصدر روسو مؤلفه :
"هوليوز الجديدة"، هاجمه فولتير بحده، وأما عن “العقد الإجتماعي” فقد
قال عنه بأنه ” لا يليق إلاّ بفيلسوف صغير يتردّد على البيوت الصغيرة”.
لا ريب في أن فولتير كان يتمتع بنفس
الامتياز وينافس روسو على الزعامة الفكرية والنجومية الشعبية إذا جاز التعبير، من
هنا سر كرهه روسو وملاحقته له. لكن روسو كان يتفوق عليه من حيث النزاهة الشخصية
والأخلاقية العالية التي لا تشوبها شائبة. ولهذا السبب تحول إلى نوع من القديس
العلماني الذي حل محل القديس المسيحي القديم.
اما مع ديدرو فكان عطف قوي يقرب ما
بينها, ربما لانهما كانا من الشعب على خلاف فولتير. وكان كلاهما متبرما ومحتجا،
كما كانا يتمتعان بعدة خصال متقاربة. الا ان ديدرو كان يقيم قبل روسو في باريس
وكان اكثر منه اختلاطا بالمجتمع. و اجرأ على الأخص. ورغم اختلافهما فيما بعد فكريا
إلا ان صداقتهما لم تنقطع.
نددت جماعة من الفلاسفة بإميل واعتبرته
خيانة أخرى للفلسفة، وأدانه أحبار فرنسا وقضاة باريس وجنيف باعتباره مروقاً من
المسيحية. وأعد رئيس أساقفة باريس خطابا كتب فيه
"بعد استشارة عدة أشخاص عرفوا بورعهم وحكمتهم، وبعد التضرع لاسم الله
القدوس، ندين هذا الكتاب لأنه يحوي تعليماً بغيضاً من شأنه أن يقلب القانون
الطبيعي وأسس الدين المسيحي، وأن يرسي مبادئ تناقض تعليم الأناجيل الخلقي، وينحو
إلى تكدير سلام الدول" ، وأمر
البرلمان بأن يمزق كتاب إميل ويحرق في فناء القصر (قصر العدالة) أسفل السلم
الكبير، بيد كبير الجلادين، وعلى كل الذي يملكون نسخاً من الكتاب أن يسلموها إلى
المسجل لإبادتها، ومحظور على الناشرين طبع هذا الكتاب أو توزيعه، وسيقبض على جميع
بائعيه وموزعيه ويعاقبون طبقاً لنص القانون الصارم، ويجب القبض على روسو وزجه في
سجن الكونسيرجري في قصر العدالة وبعد ذلك تم تنفيذ الأمر حيث مزق وحرق إميل. أما
مجلس جنيف وباعتبار روسو مواطن جنيفي أمر
بحرق كتابيه، وحرم بيعهما، وأصدر مرسوماً بالقبض على روسو إذا دخل يوماً ما أرض
الجمهورية. ولم يتعرض قساوسة جنيف على هذا التبرؤ من أشهر أبناء أحياء جنيف
كما أدانه الكلفنيون علانية بالهرطقة،
وحظر القضاة بيع "إميل" فلم يبتهج بخطاب روسو غير بعض أحرار الفكر في
فرنسا وبعض المتمردين السياسيين في سويسرا. وجاءت من البروتستانت معظم الردود
"المفندة" لدعاوى روسو والموجهة إلى المؤلف. ورأى قساوسة جنيف الكلفنيون
في الخطاب هجوماً على المعجزات وتنزيل الكتاب المقدس.
إسهاماته الفكرية:
أهم الميادين التي كتب فيها روسو هي الموسيقى والحكومة
المدنية وعلم الاجتماع والاقتصاد السياسي والدين والتربية. ومن أهم رسائله وكتبه التي خلدت اسمه نذكر:
– مقالة عن الفنون والعلوم نشرت في سنة 1750.
– مقالة عن أصل عدم المساواة بين الناس نشرت في
سنة 1753، والتي هاجم فيها المجتمع والملكية الخاصة باعتبارهما من أسباب الظلم
وعدم المساواة.
– مقالة عن الاقتصاد السياسي وقد نشرت في الموسوعة الكبرى
التي يشرف عليها «ديدرو»
– قصة «هلويز الجديدة» التي نشرت عام 1761 تضمنت بعض
أفكاره في الزواج والحياة الأسرية.
– «العقد الاجتماعي» وقد نشرت هذه الرسالة عام
1762 وكانت قمة رسائله في السياسة والحكومة المدنية، بحيث قام روسو بطرح آرائه
فيما يتعلق بالحكم وحقوق المواطنين.
– « اميل» وهي أحسن رسائله التربوية وقد
نشرت أيضا عام 1762. فيها أعلن روسو أن الأطفال ينبغي تعليمهم بأناة وتفاهم. وأوصى روسو بأن
يتجاوب المعلم مع اهتمامات الطفل. وحذر من العقاب الصارم ومن الدروس المملة ذلك
أنه أحس أيضاً بوجوب الإمساك بزمام الأمور لأفكار و سلوك الأطفال.
– اعترافات «
confessions» التي كتبها في آخر أيام حياته ونشرت بعد وفاته بين عام 1782و 1789.
فضلاً عن ذلك، كتب روسو في علم النبات، وهو علم ظل لسنوات كثيرة تتوق نفسه
إليه. كما كتب أوبرا " ربات الشعر الكريمات"
و"القرية ".
أما عملُه الأخير، الذي
اتسم بالجمال والهدوء، فكان بعنوان أحلام يقظة المتجول المنفرد،
كُتب بين عامي 1776 و1778، ونُشر عام 1782.
مختارات من كتاب "التعاقد
الاجتماعي":
الكتاب
الأول
الفصل
الأول: موضوع هذا الكتاب الأول
ولد
الإنسان حرا إلا أنه مكبل في كل مكان بالأغلال. على ذلك النحو يتصور نفسه سيد
الآخرين الذي لا يعدو ان يكون أكثرهم عبودية. فكيف جرى هذا التغيير؟ أجهل ذلك. وما
الذي يمكنه ان يجعله شرعيا؟ أعتقد أنني أستطيع حل هذه المسألة.
ولو
كنت لا أولي اعتباراً إلا للقوة لقلت: ما دام أي شعب يُكرَه على الطاعة وأنه يطيع،
فانه يحسن صنعا، وما ان يستطيع خلع نير الطاعة ثم يخلعه فعلا، فانه يحسن صنعا
أكثر: إذ يكون قد استعاد حريته بنفس الحق الذي سلبت منه به، أو أنه يكون موطد
العزم على استردادها، أو أنه لم يكن ثمة من يستطيع ان ينتزعها منه. على النظام
الاجتماعي حق مقدس، بمثابة أساس لجميع الحقوق الأخرى، ومع ذلك فان هذا الحق لا
يصدر قط عن الطبيعة، انه إذن مبني على تعاقدات. إلا انني قبل الاستطراد بالبحث إلى
ذلك يجب علي ان أثبت ما قدمت.
الفصل
الثالث: في حق الأقوى
إن
الأقوى لا يبقى أبدا على جانب كاف من القوة ليكون دائما هو السيد ان لم يحول قوته
إلى حق، والطاعة إلى واجب. وما كان حق الأقوى، وهو حق أُخذ على محمل السخرية في
الظاهر وفي حقيقة الأمر، أُقر كمبدأ. ولكن أفلا ينبغي ان يفسر لنا أحدهم هذه
الكلمة. ان القوة هي قدرة مادية لست أرى أية أخلاقية يمكن ان تنتج عن آثارها. فالخضوع
للقوة هو فعل من أفعال الضرورة، لا من أفعال الإرادة، إنه على الأكثر فعل يمليه
الحرص. فبأي معنى يمكنه ان يكون واجبا؟
لنفترض
لحظة وجود هذا الحق المزعوم. فانني أقول بأنه لا ينجم عن هذا الافتراض الا هراء لا
يمكن تفسيره. إذ ما ان تكون القوة هي التي تصنع الحق حتى يتغير المعلول مع تغير
العلة. فكل قوة جديدة تتغلب على الأولى ترث حقها. وما ان نتمكن من خلع الطاعة بلا
عقاب حتى يصبح في مكنتنا فعل ذلك شرعيا. وما دام الأقوى على حق دائما تصبح بغية
المرء ان يعمل بحيث يكون هو الأقوى. فما قيمة حق يتلاشى بتلاشي القوة؟ فإذا وجبت
الطاعة بالقوة فلا حاجة للطاعة بالواجب، وإذا لم يقسر المرء على الطاعة فانه لا
يكون ملتزما بها. وهكذا نرى إذن ان كلمة حق هذه لا تضيف شيئا إلى القوة، فهي هنا
لا تعني شيئا البتة.
أطيعوا
السلطات. فإذا كان هذا يعني الخضوع للقوة يكن التعليم جيدا، إلا أنه لا حاجة له
وجوابي أنه سوف لا تنتهك حرمته أبدا. وأنا أعترف بأن كل قوة تأتي من الله، لكن كل
مرض يأتي منه كذلك. فهل يعني ذلك ان يكون ممنوعا اللجوء إلى الطبيب؟ لئن فاجأني
قاطع طريق في ركن من غابة: فلا يجب إعطاؤه نقودي بالقوة فحسب، ولكن هل أكون مجبرا،
بصراحة، عندما يمكنني إخفاؤها عنه، على تسليمها إليه؟ ذلك ان المسدس الذي يمسك به
هو بالتالي قوة كذلك.
لنعترف
إذن بأن القوة لا تصنع حقا وإننا لسنا ملزمين بالطاعة إلا للسلطات الشرعية. وهكذا
نعود دائما إلى طرح سؤالي الأولي.
الكتاب
الثاني:
الفصل
الثاني: في أن السيادة كل لا تتجزأ
إن
السيادة لا تتجزأ لنفس السبب الذي يجعلها غير قابلة للتنازل. إذ ان الإرادة تكون
عامة، أو أنها لا تكون كذلك، فهي إرادة هيئة الشعب كله أو إرادة جزء منه فحسب. وفي
الحالة الأولى تكون هذه الإرادة المعلنة عملا من أعمال السيادة وتكون قانونا. أما
في الثانية فليست سوى إرادة خاصة أو عمل من أعمال القضاء، انها مرسوم على أكثر
تقدير.
لكن
سياسيينا إذ لم يستطيعوا تجزئة السيادة في مبدئها، جزءوها في موضوعها، فهم
يقسمونها إلى قوة وإلى إرادة، إلى سلطة تشريعية وإلى سلطة تنفيذية، إلى حقوق فرض
ضرائب وإقامة عدالة وإعلان حرب وإلى إدارة داخلية وسلطة في التعامل مع الأجنبي:
تارة يخلطون هذه الأجزاء جميعها وتارة يفصلون بينها، يجعلون من صاحب السيادة كائنا
وهميا ومكونا من قطع مجلوبة، ذلك كأنهم كانوا يؤلفون الإنسان من أجساد عديدة يكون
لأحدهما عينان وللآخر ذراعان ولغيرهما رجلان ولا شيء أكثر من ذلك. فإن مشعوذي
اليابان، على ما يقال، يقطعون الولد أمام أعين النظارة إربا، ويقذفونها في الهواء
ويعملون على سقوط الولد إلى الأرض حيا وقد ردت جميع أعضائه إليه. وهذا ما تفعله
حيل سياسيينا تقريبا، فبعد ان يقطعوا أوصال الهيئة الاجتماعية بسحر يليق بالسوق
يجمعون الأجزاء بطريقة لا يعلمها أحد.
يرجع
هذا الخطأ إلى عدم تكوين أفكار مضبوطة عن السلطة السيادية وإلى اعتبار أجزاء من
هذه السلطة ما لم يكن إلا تعبيرا عنها. وهكذا مثلا قد نظر إلى عمل إعلان الحرب
وإلى عقد السلم كأنهما من أعمال السيادة، وهما ليسا كذلك، بما ان كلا من هذين
العملين ليس قانونا قط، لكنه تطبيق للقانون فحسب، تصرف فردي يحدد حالة القانون،
كما سنرى ذلك بوضوح عندما نحدد الفكرة المتصلة بلفظ قانون.
وإذا
ما تتبعنا على نفس المنوال التقسيمات الأخرى سنجد أننا نخطئ في كل مرة نظن فيها
بأن السيادة مجزأة، وأن الحقوق التي تؤخذ على أنها أجزاء من هذه السيادة تكون
جميعها تابعة لها ويفترض فيها دائما إرادات سامية ليست هذه الحقوق إلا تنفيذا لها.
الكتاب
الثالث:
الفصل
الأول: في الحكومة بصفة عامة
أوجه
نظر القارئ إلى أنه يجب قراءة هذا الفصل بعناية وإلى انني لا أعرف كيف أكون واضحا
لمن لا يريد ان يكون متنبها.
لكل
عمل حر سببان يساعدان في إحداثه، أحدهما معنوي وهو الإرادة التي تحدد الفعل،
والآخر مادي وهو القوة التي تنفذه. فعندما أسير إلى هدف يجب أولا ان أريد الذهاب
إليه، وأن تأخذني قدماي إليه، ثانيا. ولئن أراد مشلول الركض وكان رجل رشيق لا يريد
ذلك، فكلاهما يبقى في الحالتين مكانه. وللهيئة السياسية البواعث نفسها، كذلك
يمكننا التمييز بين القوة والإرادة، حيث تكون هذه باسم السلطة التشريعية والأخرى
باسم السلطة التنفيذية. فما من شيء يجري فيها أو لا يجب ان يجري فيها دون مساعدة
هاتين السلطتين.
رأينا
ان السلطة التشريعية تخص الشعب ولا يمكن ان تخص إلا الشعب. ومن السهل ان نرى على
العكس، من المبادئ المقرة فيما تقدم، ان السلطة التنفيذية لا يمكن ان تخص مجموع
الناس بوصف هذا المجموع مشرعا أو صاحب سيادة، لأن هذه السلطة لا تتكون إلا من
أفعال خاصة، لا تكون قط من اختصاص القانون ولا هي بالتالي من شأن صاحب السيادة
الذي لا يمكن لأفعاله إلا ان تكون قوانين.
يجب
إذن ان يتوفر للقوة العامة عامل خاص يوحدها ويحركها وفقا لاتجاهات الإرادة العامة،
يخدم اتصال الدولة بصاحب السيادة، يعمل تقريبا في الشخصية العامة ما يفعله في
الإنسان اتحاد الروح بالجسد. هذا هو، في الدولة، سبب وجود الحكومة، الذي يخلط بلا
مبرر بينه وبين صاحب السيادة في حين انه ليس إلا خادمها.
فما
هي الحكومة إذن؟ إنها هيئة وسيطة بين الرعايا وصاحب السيادة من أجل الاتصال
المتبادل بينهما، مكلفة بتنفيذ القوانين وبالمحافظة على الحرية المدنية والسياسية
على السواء.
انني،
إذن، أطلق اسم حكومة أو إرادة عليا على الممارسة الشرعية للسلطة التنفيذية، واسم
أمير أو وال أو حاكم على الشخص أو الهيئة المكلفة بهذه الإدارة.
ذلك
ان القوة الوسيطة التي تؤلف علاقاتها علاقة الكل بالكل أو علاقة صاحب السيادة
بالدولة، توجد في الحكومة. ويمكن تمثيل تلك الرابطة الأخيرة بالرابطة بين أطراف
تكافؤ مستمر، متوسطُهُ المناسب هو الحكومة. فالحكومة تتلقى من صاحب السيادة
الأوامر التي يصدرها إلى الشعب ولكي تكون الدولة في توازن سليم يجب، مع توازن
الكل، ان توجد هناك مساواة بين النتيجة أو سلطة الحكومة في حد ذاتها والنتيجة أو
سلطة المواطنين الذين هم أصحاب سيادة من جهة ورعايا من جهة أخرى.
ليس
في وسعنا، بالإضافة إلى ذلك، تعديل أي من هذه الحدود الثلاثة دون الإخلال بالنسبة
في الحال. فإذا كان صاحب السيادة يريد ان يحكم أو إذا كان الوالي يريد إصدار
القوانين أو إذا كان الرعايا يرفضون الطاعة، فإن الاضطراب يحل محل النظام ولا تعود
القوة والإرادة تعملان بانسجام، فتسقط الدولة المنحلة على هذا النحو في مهاوي
الاستبداد أو في الفوضى. ولما كان لا يوجد، أخيرا، سوى متوسط نسبي واحد بين كل
علاقة فإنه لا يوجد كذلك إلا حكومة واحدة صالحة ممكنة في دولة واحدة. ولكن كما ان
ألف حادث يستطيع تغيير علاقات شعب فلا يكون في وسع حكومات مختلفة ان تكون صالحة
لشعوب متنوعة فحسب بل وتكون كذلك لشعب واحد في أزمنة مختلفة.
...
إلا ان هناك هذا الفارق الأساسي بين هاتين الهيئتين، وهو ان الدولة توجد بذاتها
وان الحكومة لا توجد إلا بصاحب السيادة. وعلى هذا فإرادة الأمير السائدة ليست أو
لا يجب ان تكون إلا الإرادة العامة أو القانون، وقوته ليست إلا القوة العامة مركزة
فيه، وما ان يريد إتيان عمل مطلق ومستقل من تلقاء نفسه حتى تأخذ رابطة الكل
بالتراخي. وإذا حدث أخيرا ان صارت للأمير إرادة خاصة أكثر فعالية من إرادة صاحب
السيادة فاستعمل، لفرض الطاعة لهذه الإرادة الخاصة، ما يكون في يديه من القوة
العامة، بحيث يصبح هناك تقريبا صاحبا سيادة، أحدهما بالحق والآخر بالفعل، انهار
الاتحاد الاجتماعي في الحال وانحلت الهيئة السياسية.
ولكي
يكون لهيئة الحكومة وجود، مع ذلك، حياة حقيقية تميزها عن هيئة الدولة، وليستطيع
جميع أعضائها العمل في تناسق واتفاق مع الغاية التي أنشئت من أجلها، يجب ان يكون
لها أنا خاصة، هي وعي مشترك بين أعضائها، قوة، إرادة خاصة بها تميل إلى المحافظة
عليها. هذا الوجود الخاص يفترض وجود اجتماعات ومجالس وسلطة للمداولة وللحل وحقوق
وألقاب وامتيازات يختص بها الأمير وحده وتجعل منصب الحاكم أكثر احتراما بنسبة ما
يكون شاقا. وتكون الصعوبات في طريقة تنظيم هذا الكل التابع في الكل بحيث لا يبدل
قط التكوين العام بتأكيد تكوينه هو، وأن يميز دائما قوته الخاصة المعينة للمحافظة
عليه ذاته من القوة العامة المخصصة للمحافظة على الدولة، وأن يكون باختصار دائما
مستعدا للتضحية بالحكومة من أجل الشعب لا بالشعب من اجل الحكومة.
الكتاب
الرابع:
ا لفصل
الثامن: في الدين المدني.
.
قد
ينقسم الدين، على ضوء علاقته بالمجتمع التي تكون إما علاقة عامة أو خاصة إلى
نوعين، وهما دين الإنسان ودين المواطن. الأول، وهو لا معابد ولا هياكل ولا طقوس،
مقتصر على العبادة الداخلية المحضة لله الأعلى، وعلى الواجبات الأخلاقية الأبدية،
يكون دين الإنجيل النقي والبسيط، التوحيد الحقيقي، وهو ما يمكن ان نسميه القانون
الإلهي الطبيعي. الثاني وهو مدون في بلد وحيد، يمنحه آلهته وشفعاءه الخاصين
وحُماته: ان له عقائده وطقوسه وعبادته الخارجية المفروضة بالقوانين، وفيما عدا
الأمة التي تعتنقه، يكون كل إنسان بالنسبة له كافرا، أجنبيا، وبربريا، وهو لا يمد
واجبات الإنسان وحقوقه خارج حدود هياكله. كانت هذه هي أديان الشعوب الأولى جميعها
التي يمكن ان نطلق عليها اسم القانون الإلهي المدني أو الوضعي.
ثمة
نوع ثالث من الأديان أكثر غرابة، إذ أنه بتقديمه للبشر تشريعين ورئيسين ووطنين،
يخضعهم لواجبات متناقضة ويمنعهم من ان يكونوا في ان واحد مؤمنين ومواطنين. ذلك هو
دين اللاميين ودين اليانيين والمسيحية الرومانية، ويمكن تسمية هذا الدين بدين
الكاهن. وينشأ عنه نوع من القانون المختلط والانطوائي لا اسم له إطلاقا.
وإذا
ما نظرنا سياسيا إلى هذه الأنواع الثلاثة من الأديان وجدنا أنها جميعها تنطوي على
أخطاء. فالثالث واضح كل الوضوح أنه سيئ، ومن العبث إضاعة الوقت في البرهان على
ذلك. إذ ان كل ما يفرق الوحدة الاجتماعية لا قيمة له. وجميع المؤسسات التي تضع
الإنسان في تناقض مع نفسه لا قيمة لها.
والثاني
جيد في حدود توحيده للعبادة الإلهية وحب القوانين، وهو إذ يجعل من الوطن موضوع
عبادة المواطنين، يعلمهم ان خدمة الدولة هي خدمة الإله الحافظ لها. فهو ضرب من
الحكم الديني حيث لا ينبغي ان يكون فيه قط من حبر أعظم سوى الأمير ولا كهنة سوى
الحكام. عندئذ يكون الموت في سبيل البلاد استشهادا وخرق القوانين إلحادا وإخضاع
الجرم للعنة العامة إسلاما له لغضب الآلهة، فكن صالحا (Sacer estod).
لكنه
سيئ في أنه يخدع البشر، نظرا لأنه مبني على الخطأ وعلى الكذب، ويجعلهم بلهاء،
متعلقين بالخرافات، ويغرق عبادة الله الحقيقية في طوفان من الطقوس الجوفاء. وهو
سيئ أيضا، إذ يصبح قاصرا وطاغيا فيجعل الشعب سفاكا ومتعصبا، بحيث لا يتنفس إلا
القتل والمذابح ويعتقد أنه يقوم بعمل مقدس وهو يقتل أيا كان لا يؤمن بآلهته. وهو
ما يضع مثل هذا الشعب في حالة طبيعية من الحرب مع جميع الشعوب الأخرى، مضرة جدا
بأمنه الخاص.
يبقى
إذن دين الإنسان أو المسيحية، لا مسيحية اليوم، وإنما مسيحية الإنجيل التي تختلف
عنها اختلافا تاما. فبمقتضى هذا الدين المقدس، السامي، الحقيقي، يعترف البشر، وهم
أبناء الإله نفسه، أنهم جميعا اخوة، والمجتمع الذي يضعهم موحدين لا ينحل حتى
الموت.
لكن
هذا الدين، لما كان لا تربطه أية علاقة خاصة بالهيئة السياسية، يترك للقوانين
القوة الوحيدة التي يستمدها من ذاتها دون ان يضيف إليها أية قوة أخرى وبذلك تظل
رابطة من اعظم روابط المجتمع الخاصة دون أثر. بل وأكثر من ذلك، فبدلا من ان يربط
قلوب المواطنين بالدولة يفصلها عنها كما يفعل بالنسبة لجميع أشياء الدنيا: ولست
أعرف شيئا أكثر تناقضا مع الروح الاجتماعية.
يقال
لنا ان شعبنا من المسيحيين الحقيقيين قد يشكل أكمل مجتمع يمكن للمرء ان يتخيله.
وأنا لا أرى في هذا الافتراض سوى صعوبة عظيمة واحدة، وهي ان مجتمعا مكونا من
مسيحيين حقيقيين سوف لا يبقى مجتمعا من البشر.
بل
انني أقول بأن هذا المجتمع المفترض لن يكون رغم كل كماله لا المجتمع الأقوى ولا
الأكثر دواما. فمن فرط كماله سوف يفتقر إلى الرابطة، وعيبه المدمر سيكون في كماله
نفسه.
كل
إنسان سوف يقوم بواجبه، والشعب سيخضع للقوانين، ويكون الرؤساء عادلين ومعتدلين، والحكام
مستقيمين، نزيهين، وسيستهين الجنود بالموت، ولن يكون هناك لا زهو ولا شرف، فكل هذا
جميل، بالغ الجمال، ولكن دعنا ننظر فيما هو أبعد.
ان
المسيحية هي دين روحاني تماما، لا تشغله سوى أمور السماء وحدها. فوطن المسيحي ليس
في هذا العالم. صحيح أنه يؤدي واجبه، لكنه يؤديه بلا مبالاة عميقة بنجاح أو بسوء
عاقبة مساعيه. وشريطة ان لا يكون ثمة ما يلام عليه، فلا يهمه ان تسير الأمور كلها
سيرا حسنا أو سيئا في هذا العالم الدنيوي. وإذا كانت الدولة مزدهرة فلا يكاد يجرؤ
على التمتع بالسعادة العامة، ويخشى ان يأخذه الزهو بمجد بلاده، وإذا هلكت الدولة
فإنه يبارك يد الله التي شددت قبضتها على شعبه.
ولكي
يكون المجتمع هادئا ويبقى الانسجام فيه، لا بد من ان يكون المواطنون جميعهم بلا
استثناء مسيحيين صالحين على السواء. ولكن إذا وجد هناك لسوء الحظ، طموح واحد،
مخادع واحد، كاتيلينا مثلا، أو كرامويل، فإن مثل هذا الرجل سيجد بلا ريب، سوقا
رائجة في مواطنيه الأتقياء. فالبر المسيحي لا يسمح بسهولة بالظن سوءا في الجار.
وما ان يجد أحدهم بحيلة ما المهارة في ان يفرض نفسه، ويتولى على جزء من السلطة
العامة، حتى يصير رجلا يحف به التكريم، فالله يريد له ان يحترم، وإذا تعسف المؤتمن
على هذه السلطة فإنه الصولجان الذي يعاقب به الرب أبناءه. والمسيحي لا يستريح
ضميره تماما لطرد المغتصب، إذ لا بد لذلك من إقلاق الراحة العامة واستخدام العنف،
وإراقة الدماء، وهذا كله لا يتفق مع وداعة المسيحي، وعلى كل حال ماذا يهم ان يكون
الإنسان حرا أو عبدا في وادي البؤس هذا؟ الجوهري هو الذهاب إلى الجنة، وما التسليم
إلا وسيلة مضافة في سبيل ذلك.
وإذا
وقعت حرب خارجية يسير المواطنون بلا مشقة إلى المعركة، ما من أحد منهم يخطر على
باله الفرار، انهم يقومون بواجبهم، ولكن دون حماسة للنصر، يعرفون كيف يموتون أكثر
مما يعرفون كيف ينتصرون، فماذا يهم إذا كانوا منتصرين أو مهزومين؟ ألا تعلم
العناية الإلهية أكثر منهم ما يجب لهم؟ ولنتصور ما يمكن لعدو فخور، متهور ومتحمس،
ان يفيد من رواقيتهم! لنضع في مواجهتهم تلك الشعوب الباسلة التي يستبد بها حب فياض
للمجد وللوطن، ولنقدر ان هذه الجمهورية المسيحية تواجه إسبارطة أو روما، فإن
المسيحيين الأتقياء سيهزمون ويسحقون ويبادون قبل ان يمكنهم الوقت من التعارف، أو
أنهم لا يكونون مدينين بنجاتهم إلا للازدراء الذي يكنه لهم عدوهم. لقد كانت عظة
جميلة، في اعتقادي، تلك التي قدمها جنود فابيوس، فإنهم لم يقسموا على الموت أو
النصر، وإنما أقسموا على ان يعودوا منتصرين، وبروا بقسمهم. وما كان للمسيحيين أبدا
ان يفعلوا مثل ذلك، كانوا يعتقدون أنهم يمتحنون الله.
لكنني
أخطئ بقولي جمهورية مسيحية، فإن كل كلمة من هاتين الكلمتين تنبذ الأخرى. ذلك ان
المسيحية لا تبشر إلا بالعبودية والتبعية. وروحها ملائمة إلى أبعد حد للطغيان، ولو
أنه لا يستغلها دائما. فإن المسيحيين الحقيقيين جبلوا ليكونوا عبيدا، وهم يعرفون
ذلك ونادرا ما يقلقون له. فهذه الحياة القصيرة قيمتها طفيفة جدا في نظرهم.
كان
الجنود المسيحيون بواسل في عهود الأباطرة الوثنيين، يؤكد ذلك جميع الكتاب
المسيحيين على ما أظن، فتلك كانت مباراة على الشرف ضد الجيوش الوثنية. ومنذ ان
أصبح الأباطرة مسيحيين لم تعد تلك المباراة. وعندما طرد الصليب النسر اختفت
البسالة الرومانية كلها.
ولكن
لنعد إلى الحق تاركين الاعتبارات السياسية جانبا، ولنحدد المبادئ في هذه النقطة
الهامة. ان الذي يمنحه العقد الاجتماعي لصاحب السيادة على رعاياه لا يتجاوز قط،
كما سبق ان قلت، حدود المنفعة العامة، فليس على الرعايا تقديم حساب عن آرائهم
لصاحب السيادة إلا بمقدار ما تهم آراؤهم المجتمع. وعليه يهم الدولة ان يعتنق كل
مواطن دينا يحببه بواجباته، لكن معتقدات هذا الدين لا تهم لا الدولة ولا أعضاءها
إلا بمقدار ارتباطها بالأخلاق وبالواجبات المترتبة على معتنقها تجاه الآخرين.
وفضلا عن ذلك يستطيع كل واحد ان يعتنق من الآراء ما يطيب له دون ان يكون من حق
صاحب السيادة معرفتها. إذ بما أنه لا اختصاص له قط في العالم الآخر، فأيا كان مصير
رعاياه في الحياة المقبلة، فليس ذلك من شأنه بشرط ان يكونوا مواطنين صالحين في هذه
الدنيا.
...
يجب
ان تكون عقائد المدني بسيطة وقليلة العدد ومحددة بدقة دون تفسير ولا تعليق. ان
الإيمان بوجود إله قادر، ذكي، محسن، بصير، مدبر، وبحياة ثانية، وبسعادة الصالحين،
وعقاب السيئين وبقدسية العقد الاجتماعي وبالقوانين، هي العقائد الإيجابية. أما
فيما يتعلق بالعقائد السلبية، فإنني أقصرها على واحدة، هي عدم التسامح: انها تدخل
في العبادات التي استبعدناها.
...
والآن،
إذ لم يبق ولا يمكن ان يكون قد بقي دين قومي منفرد، ينبغي التسامح مع جميع الأديان
التي تتسامح مع غيرها، بقدر ما لا تنطوي عقائدها على شيء مضاد لواجبات المواطن.
ولكن كل من يجرؤ على القول: لا سلام مطلقا خارج الكنيسة يجب ان يطرد من الدولة، ما
لم تكن الدولة، على الأقل، هي الكنيسة نفسها، ولا يكون الأمير هو الحبر الأعظم.
فعقيدة كهذه ليست صالحة إلا في حكومة دينية، أما في أي حكم آخر فهي ضارة...
-
"أحلام
يقظة جوال منفرد "، تأليف: جان جاك روسو ،ترجمة و تعليق : ثريا توفيق، الناشر
المركز القومي للترجمة الطبعة الثانية 2009.
-
"اعترافات
جان جاك روسو "، تأليف: جان جاك روسو، ترجمة: حلمي مراد، الناشر دار البشير
للطباعة والنشر والتوزيع.
-
"جان
جاك روسو ، حياته و كتبه" ، تأليف : محمد حسين هيكل ، الناشر : مكتبة النهضة
المصرية 1998.
-
"جان
جاك روسو ، حياته، مؤلفاته، غرامياته" ، تأليف : نجيب المستكاوي ، الناشر :
دار الشروق الطبعة الأولى 1989.
-
.عبد الكريم
بكار، حول التربية والتعليم، دار القلم، دمشق، 2011.
-
أحمد د. محمد شريف، فكرة القانون الطبيعي عند
المسلمين، دراسة مقارنة، دار الرشيد، العراق، ط1، 1980.
الاساسي
و الثانوي
-
بالمر، روبرت، الثورة الفرنسية وامتداداتها،
ترجمة هنبريت عبودي، دار الطليعة بيروت، ط1، 1982.
-
بالمر، روبرت، تاريخ العالم الحديث، ج2، ترجمة
حسن علي ذنون، مكتبة دار المتنبي بغداد 1964.
-
البكري، عبد الباقي، نظريات القانون، مطبعة
الزهراء بغداد 1969 س.
-
توشبار، جان، تاريخ الفكر السياسي، ترجمة د.علي
مقلد، الدار العالمية، بيروت ط1، 1981.
-
الحسن، احسان محمد، رواد الفكر الاجتماعي، دار
الحكمة للطباعة والنشر، بغداد 1991.
-
ديدجري، البان، ج، التاريخ وكيف يفسرونه، ترجمة
عبد العزيز توفيق، الهيئة المصرية للكتاب، مصر 1972.
-
سعيد
إسماعيل علي، الأصول الفلسفية للتربية، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع
والترجمة، 2014.
-
عبد
الله عبد الدائم، التربية عبر التاريخ، دار العلم للماليين، الطبعة الخامسة،
بيروت، 1984.
-
فولفين،
ف، فلسفة الأنوار، ترجمت هنربيت عبودي، دار الطليعة بيروت، ط1، 1981.
-
كرم، يوسف، تاريخ الفلسفة الحديثة، دار المعارف،
مصر، ط1، 1957.
-
لويس، جون، مدخل إلى الفلسفة، ترجمة أنور عبد
الملك، دار الحقيقة بيروت، ط2، 1973.
-
الموسوعة
العربية الميسرة، دار الشعب ومؤسسة فرانكلسبق، القاهرة، 1965.
-
الموسوعة الفلسفية العربية، معهد الأنماء
العربي، ط1، 1988.
-
الموسوعة
الفلسفية، ترجمة سميري كرم، دار الطليعة، بيروت، ط2، 1980.
وزارة
التربية والتعليم، مدرسة أم غافة للتعليم ، منطقة العين التعليمية عمل الطالب :
علي سالم الشامسي حول روسو.
-
-
http://ar.wikipedia.org/wiki /%
-
http://www.ahlulbaitonline.com/Public/otrofat/rasael/resala150.htm
-
http://www.koolpages.com/almalaika/roso.html
-
www.uae7.com/vb/attachments/1009d1208340910-تاريخ.doc